samedi 20 octobre 2018

صيقع سيف الإسلام : الادب و الفن مع المجتمع

صيقع سيف الإسلام : الادب و الفن مع المجتمع: في « مشكلة الأفكار » يطرح المفكر مالك بن نبي استغرابا و سؤالا ضمنيا ، لما قارن مستوى النظافة بين شوارع موسكو و شوارع بلد من العالم...

الادب و الفن مع المجتمع



في « مشكلة الأفكار » يطرح المفكر مالك بن نبي استغرابا و سؤالا ضمنيا ، لما قارن مستوى النظافة بين شوارع موسكو و شوارع بلد من العالم الثالث كالجزائر ، حيث شوارع موسكو نظيفة جدا خلافا لشوارع الجزائر ، برغم أن الجزائر دولة مسلمة و دين الإسلام حافل و غاص بالطهارة و نبذ النجاسة من أوله لآخره ، بدءا بتنقية العقائد إلى تنقية الأثواب و الأماكن ، فأين الخلل ؟ . يجيب بن نبي رحمه الله أن « أفكار النظافة » لدينا لم تتحول إلى « ثقـــــــافة » أي أن تكون قوة فاعلة من الوعي تسري في مسالكنا الدماغية الروحية كما يسري الهواء في مسالكنا الرئوية ، و جوابه مقنع و صادق آت من ملاحظة الانفصام الذي يعيشه مجتمعنا العربي و المسلم ، الانفصام بين الفكرة و الثقافة ، الانفصام بين الماضي و الحاضر . إلا أنه لا شك في وجود شيء تتغذى منه الثقافة السلبية – اتساخ الشوارع – مقابل شيء ثان تتغذى منه الثقافة الإيجابية – نظافة الشوارع-- . شيء هو يسير في الشوارع و البيوت و داخل الأزقة ، يعيش عند الطفل الصغير و المراهق الشاب و العجوز الكهل ، يعيش في المدارس و المكتبات و المستشفيات ، يعيش في الأرجاء و الأجواء كلها . . . و هو الأدب .

لا الأدب بمعناه الضيق المتمثل في الروايات و القصص ، بل بمعناه الواسع الشامل لكل من : الموسيقى ، الكوميديا ، المسرح و السينما ، القصة و الرواية ، الشعر . هذا الأدب بمعناه الواسع لا يكاد ينجو منه أمر ضمن مؤسسة الدولة ، أيا كانت ، فهو في المنزل و المدرسة و الشارع ، و هو الحوار بين هذا و ذاك ، و هذه و تلك ، وهو أسلوب بناء الجدار و الحائط و زخرفة المدن حتى ، فإذا وضح هذا لم يشك المتأمل أن للأدب بمعناه الواسع سطوة هائلة تضرب في العمق و الجذور داخل « الوعي الجمعي » لشعب من الشعوب ، و على حسب نضج و قوة و عمق الأدب يأتي نضج و قوة و عمق الإنسان ضمن الدولة ، و على سذاجة و سطحية و رقاعة الأدب تأتي سذاجة و سطحية و رقاعة الإنسان ضمن الدولة . حيث : كل بيئة معينة ذات خصائص ما ، هي في ذاتها عبارة عن « نموذج ذهني » يتم ترسيخه داخل عقل الفرد التابع لتلك البيئة ، إذ : ضمن بيئة شيعية مثلا ، الفرد هناك يملك نموذجا ذهنيا متعلقا بقبول كل ماهو ضد شخصية أبي بكر و عمر و العكس ، و في بيئة ليبرالية يملك الفرد هناك نموذجا ذهنيا متعلقا بتحررية لا تعرف قيودا ، و كل من الفردين عنده إسقاط لاواعي كما عنده ممارسة لاواعية لحياته ضمن النموذج الذي يملكه ، بمعرفته له أو بدون ذلك ، و أكثر الحالات بدون ذلك ، بل الغالب الأعم ، وليس قصدي هنا « الفكر » بل الأدبيات العامة المتوفرة و هي أخطر من الفكر و تبني « اللاشعور » الخاص بالإنسان ، و لنقارن بين شخصيتين تخيليتين قبل التخصص قليلا :

أ-شخصية تقرأ في أدب شكسبير و غوته و نجيب محفوظ و تستمع لموسيقى بيتهوفن و موزارت ، تنصت لأغاني أم كلثوم ، تقرأ في شعر بوشكين و إليوت و محمود درويش ، تشاهد الأفلام الفلسفية و الاجتماعية و النفسانية ، تتابع الأوبرا و المسارح العالمية لأمثال برنارد شو .

ب-شخصية تقرأ في أدب واسيني لاعرج و تستمع لموسيقى الروك أند رول ، تنصت لأغاني الراب ، تقرأ في شعر قيس و ليلى ، تشاهد أفلام الحب و القصص العاطفية الفاشلة ، لا تعرف شيئا اسمه المسرح .

نعم هو تخيل مفرط قليلا في الذاتية ، لكنه يصل بمقصودي الواضح ، أن نسق الشخصية « أ » في ذوقه و نضجه و طريقة تفكيره و أهدافه و غاياته و إسهاماته ، يختلف اختلاف النقيض مع نسق الشخصية « ب » الساقط في ذوقه و السطحي في أحاسيسه و انطباعاته و العقيم في تفكيره و الفاقد لمعنى الغاية و الطموح و إسهامه الوحيد الضرر بمجتمعه و بيئته ، فالشخصية « أ » هي لبنة الحضارة على عكس « ب » لبنة الانحطاط . ذلك أن الحضارة على مر تاريخها ، في أي جهة تمثلت ، صاحبها دوما أدب راق و فن عظيم ، خلافا للانحطاط الذي علامته هذا الأدب الرديء الذي يكسو مظاهر الحياة عند شعب من الشعوب ، بل من بوادر انطلاق و قيام الحضارة هو الأدب ، حيث يكون عاملا مهما في تغيير النمط السائد من الوعي عند فئة من الشعب ، تساهم هذه الفئة في تهيئة أرضية الثورة لاسترداد حق الحياة ، ذلك أنه لا حياة ضمن الحكومة الظالمة ، فالشيوعي لينين قيل فيه أنه تغير كلية في أفكاره بعد قراءة قصة قصيرة لأنطون تشيخوف ، كما أن رواية صغيرة مثل « مزرعة الحيوان » لجورج أورويل يقال كانت نقدا لاذعا للاتحاد السوفياتي ، بل حتى غاليلي نجده لما أراد الإفصاح عن أفكاره العلمية ، جعل كتابه يأتي في صيغة متحاوران يتناقشان ، أحدهما متبني للتصور الكنسي الأرسطي و الثاني لمنظور غاليلي نفسه ، كذا فعل جان جاك روسو في كتابه « إيميل » عن التربية الاجتماعية للطفل ، صاغه صياغة رواية و مذكرات .

و من سياقنا الإسلامي ، لا يفوتنا الأهمية الكبيرة للشعر ، الذي كان مأدبة لجميع الفنون ، اللاميات و النونيات و غيرها ، التي حوت أخبار التاريخ و عادات القبائل و قضايا المنطق و أحكام الفقه و فن الحديث و رياضة النفس بالتصوف و الترجيح بين العقائد ، مما لا يزال بعضه يتدارس إلى اليوم ، لكنه اليوم تدارس في حين البارحة كان ثقافة و نسيما يجوب الأجواء كما يجوبها الهواء و الريح .

أما اليوم فلا يفوت المرء الأهمية العظيمة للسينما الغربية و كيف صارت تعالج أمات المسائل و قضايا البشرية بفن سينمائي بلغ الذروة ، فمن جهة السرد الذي يعطي للفكرة نسيجا تحيا فيه ، هو واقع معاش يصل به المغزى أقوى و أسهل ، فقد عالجت السينما الغربية مفاهيم عديدة ، من ضمنها : الفقر ، المرض ، الأخلاق ، العدمية ، الديموقراطية ، الحب ، الخيال العلمي ، علم النفس الإجرامي ، اللاشعور ، الحداثة و الرأسمالية ، الشذوذ الجنسي ، الحرية ، الاستبداد ، العنصرية ، الانفصام . . . الخ . و تعدى الوضع إلى تمثيل قصص حقيقية كالحرب الأهلية التي دخلتها رواندا ، بل و تم تمثيل أعمال روائية خيالية ، و من العجب أنك تجد كتاب « النبي » لجبران خليل جبران مصاغا في فيلم من أجود ما يكون ، لتعرف كم صارت أهمية السينما و الفن السينمائي الذي لا نملك منه شيئا ضمن عالمنا العربي المسلم .

في مجتمعنا المتخلف نملك أسوأ الأدباء و أسوأ الشعراء و أسوأ المغنين و أسوأ الممثلين و أسوأ المخرجين السنمائيين و أسوأ الرسامين الكاريكاتوريين حتى . . كل هذا ملتما مع بعضه هو كتلة سامة تسري في الإنسان سري الدم فيه ، فهي تخلق « تصوراته » و تؤسس « مبادئه » و تحدد « غاياته و طموحاته » و كلها لصيقة التهمة بالفشل و الحمق ، لذلك ستكون شوارعنا متسخة خلافا لشوارع موسكو ، لا لأننا نجهل الأفكار العظيمة ، بل لأن هذا الأدب الذي نحيا فيه هو أدب السوء فيخلق لنا نموذجا ذهنيا نعيش به كالبهائم ، و نحن لا ندري أنه لكي نستفيق يجب أن نبدأ في تغيير هذا النمط من الأدب السائد ، و الرسالة موجهة لأصحاب الأدب لا الحكومة الفاسدة التي تكون أكبر مستفيد من هذا ، بل توفر دعما و حثا للأدب الفاسد حتى يبقى الفرد في معزل عن الوعي ، فيقال :

1-العبرة بأهمية و عمق القضية ، فرواية تعالج مشكلة اجتماعية و قصيدة ترفع من أحاسيس النزعة التحررية و سينما ترسم مستقبلا عن دراسة تاريخية واعية و كوميدي يسخر من المضرات و الآفات التي تهلك المجتمع و رسام يخلد موقفا من مواقف العز و الهوية . . . هي هذه القضايا ما يرفع الأدب من جهة و يرفع الوعي من جهة ثانية ، ضمن تلازم ، و لا يشترط في ذلك التكلف في المهارة ، فعمق « المــــــعنى » يشفع لضعف الصياغة ، أيا كان نوعها .

2-لما تتوفر بعض هذه الأسس الجديدة ، و يصبح الأدب راقيا ، هنا حتى مع توفر الحكومة الفاسدة ، سيتم بناء « تصور » صحيح و تأسيس « لمبادئ » راسخة و تحديد « لغايات سامية » ، بالتالي ينفر المواطن من حكومته و يبدأ الانسلاخ رويدا رويدا ، أين تقترب الحضارة رويدا رويدا .

نوع الأدب يخلق نوع المجتمع ، فاحرصوا على الأدب الراقي .

الضعف المنهجي

بين لغة الحضارة و لغة الانحطاط –الجزء الخامس –

ضعف المنهجية و البحث العلمي .

في « سؤال المنهج » يقول طه عبد الرحمان : « فالمقتضى المنهجي إذن أن يكون الداعي الأول الذي لا يتقدمه غيره النظر في التراث هو بالذات " معرفة التراث " ، فلا تحديث له من غير معرفة به و لا عقلنه له بالأولى من غير تمام المعرفة به ، فضلا عن الدخول في العمل به ، لذلك لم نجد بدا من هذا المقتضى ، فلم يكن داعينا الأول إلى تحديد النظر في النص التراثي هو طلب تحديثه و لاطلب عقلنته ، و إنما مقلوبهما ، ألا و هو " طلب معرفته " أي " طلب التمكن من وسائله و التحقق من مضامينه " » .

يوضح طه عبد الرحمان في قوله هذا أهمية المنهجية في تناول القضايا ، حيث يستدعي منا لكي نطلق حديثنا و أحكامنا في « التراث الديني » ، يجب أولا و سبقا أن نعرف و نفهم هذا الــــ« التراث الديني » ، و بقدر ما يبدو هذا بديهيا جدا في أوليات التفكير و النقد إلا أنه – و بدون مبالغة – سرطان العصر في باب الثقافة . أي : إطلاق الأحكام و التطاول على الأفكار دون معرفتها معرفة تامة أو الإلمام بها إلماما جيدا عميقا ، و هذا لا تختص بها فرقة دون فرقة أو مذهب دون مذهب ، هو متفشي تفشيا فظيعا ، يتم على طريقة ابن صلاح في رفضه للمنطق ، أنه مدخل للفلسفة و الفلسفة شر إذن هو شر . . . فيأتي الأصولي يستنكر على الحداثي ما لم يحققه من مقاله ، كما يستنكر الحداثي على الأصولي ما لم يضبطه ضبطا سليما ، و بين كل ذلك تخلق حرب جدالية لا طائل من ورائها البتة ، إلا الوقوع في مغالطة رجل القش ، كل يبني فزاعة لخصمه ثم يضرب الفزاعة مرددا : « لقد سقط خصمي » ، و إن كان طه عبد الرحمان أشار إلى لزوم المعرفة التامة كمقتضى منهجي ، إلا أن الضعف المنهجي يأتي في صور عديدة إضافة لما ذكر ، من ذلك :

أ-« عدم معرفة فكرة الآخر » كما أشار طه عبد الرحمان
ب-«التدليس بحجج لا تأتي بنيتجتها »
جـ-« عدم التفريق بين الذوقيات و العلميات »

يمكن إضافة أخطاء منهجية أخرى ، لكن سأكتفي بهذه الأمهات الثلاث ، فأما بالنسبة للنقطة « أ » :

نجد خير مثال على ذلك هو حديث العلماء الأصوليين كالشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن النظريات العلمية عموما ، و نظرية التطور لداروين خصوصا ، فإن الشيخ لما سئل رحمه الله عنها أجاب بأنها تقول « أصل الإنسان قرد » و هذا مرفوض في الإسلام و عليه النظرية باطلة . و بدون الحديث عن صدقية النظرية من بطلانها ، نسأل نحن فقط مدى دراية الشيخ بالنظرية و هل تكلم عنها بعلم أم أنه لا يعرف أسس البيولوجيا فضلا عما بني عليها ، فضلا عن هل نلنا نحن إجابة كافية شافية من هذا الرد ؟ ، فضلا أن النظرية يمكن لها أن تحوي أجزاء صحيحة في تضاعيفها و ردها بالمطلق هو رد كذلك للحق الذي تحمله . فضلا عن أن الدين جاء ليندمج و يعالج الحياة ، لا أن ينفصم عنها في برج من العاج ، و يا ترى هل لو حكم أحدهم بمثل هذا المنطق عن الإسلام ، كيف كنا لنواجهه ، مثل الذي قال « داعش تمثل الإسلام و بالتالي أنا أرفضه » ، أليست إجابتنا له بقولنا « يجب أن تدرس التراث الديني جيدا » هو حجة علينا من جهة ثانية لما نحكم عن الأشياء الخارجة عن هذا الدين مثل حكم ذاك باستغلال داعش لرد الدين ، أم نطلب منه ما صنعت المؤرخة الجليلة كارين أرمسترونغ لما أرادت دراسة الإسلام فتناولت سيرة إسحاق و تاريخ الطبري و كتب حتى بعض المسلمين مثل محمد عبده و السيد قطب ، كما ذكرت في كتابيها « محمد » و « الله لماذا » ، فخرجت بتعظيم شخصية النبي و تعظيم ديانة الإسلام ، و قل مثل هذا في الماركسية و الفلسفة الوضعية و فلسفة التاريخ و ما سواها ، رفض عن غير دراية و نفور من غير فهم أو وعي بما يريد الآخر بيانه عن نفسه و فكره ، فحقا حاز هؤلاء نصيبا من قوله تعالى « و كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما ياتهم تاويله » . . . فهذه الآية و إن اتهمت الكفار بأنهم كذبوا بما لم يحققوه و يبحثوه ، إلا أنها ضمنيا عامة تمس جنس كل هذا الفعل ، فالرافض دون دراية هو مكذب بما لم يحط بعلمه و لربما لما ياتيه تاويله يجد فيه من الحق الكثير أو القليل .

نظير هذا ما نجد مثله عند أتباع الحداثة و التنوير ، تقول نوال سعداوي « يجب تغيير القرآن » و تقول « في الإسلام مدرسة كبيرة تقدم المصلحة على النص » ، و نحن نسأل بداية : هل حققت نوال سعداوي أصول الفقه و مصطلح الحديث و مبحث المقاصد و مقررات المذاهب و تاريخها ؟ . . أم أنها تصدر أحكاما جاهزة ، لا عالمة بأدنى مقومات هذا التراث الذي حكمت عليه أخيرا بقولها « يجب تغيير القرآن » . و من جديد نقع في نفس الحفرة ، حكم بالرفض و التغيير دون دراية بما هو متوفر و موجود أصالة ، مع اتخاذ إحداثيات من هذا التــــــــراث بغير إحاطة ، و على شاكلة نوال سعداوي نلاحظ الكثيرين من الإسلاميين القرآنيين و الفرانكفوريين و اليساريين و غيرهم . هذه « الانفصامية » واقعة اليوم من ضرر الضعف المنهجي و سذاجة البحث العلمي ، لذلك لا يخرج أي من الفريقين بحل نهائي حاسم ، فيه من البناء ما فيه ، و فيه من الترميم ما فيه ، و فيه من الهدم ما فيه . و هو حل ناجم عن إحاطة جاءت بحوصلة نهائية ، أما عدم الإحاطة فلن يأتي بحل و سيبقى الفريقان مثل الخطين المتوازيين ، كل منهما يسير بمفصلة عن أخيه دون التقاء ، أو هيمنة لخط على حساب الآخر .إذ : واقع اليوم مركب من التراث الديني كما التطور الحضاري بأشكاله المختلفة : السياسي و العلمي و الفني . . و مهمة الدين الرئيسة أن يكون فاعلا في الواقع و له رأي مسبوق بعمق ، و هذا خلاف المشهود و الملاحظ بسبب قلة الإحاطة .

بالنسبة للنقطة « ب » : التدليس بحجج لا تأتي بنتيجتها ، أكثر نوع يستعمل في هذا الأمر هو حجة « الإمكان » . أي : لتبرير حقيقة الشيء يكفي إثبات إمكان حدوثه ، و لإيضاح هذا سأستغل ما سطره باقر الصدر في كتيبه « بحث حول المهدي » لما أراد البرهنة على وجود المهدي المختبئ في سردابه منذ أكثر من ألف عام ، قال بأن نوح عاش أكثر من 900 سنة ، و أنه علميا توجد الشيخوخة المبكرة كما يمكن أن تعيش الخلايا لعمر أطول فتحصل على شيخوخة بعيدة ، و أن الإنسان إذا عاش عبر حضارات مختلفة لسنين طويلة ، أين شاهد قيامها و عصورها الذهبية و انحطاطها ، هذا الإنسان سيملك قابلية أكبر لتقديم حلول للبشرية ، و عليه يستبين فائدة العمر الطويل للمهدي ، حيث يراقب الحضارات حتى يستطيع تقديم حل للبشرية .

قلت : المتفحص لهذا الكلام سيجده عقيما إذ ما ركز قليلا ، فهو يتحدث عن إمكان وجود عمر طويل و حياة طويلة بمقدار ألف سنة ، لكن النزاع ليس في إمكان هذا بل في حقيقة وقوعه ، فأنا يمكنني أن أقول « هتلر كان قادرا على قتل آينشتاين » لكن هل تحقق هذا فعلا في التاريخ ، هل قتل هتلر آينشتاين ؟ .. الجواب : لا . و إذن : الحديث في إثبات شيء ما بطريق أنه يمكن أن يحدث في التاريخ ، هنا مغالطة و قفزة غير مبررة ، بل يجب الحديث في حقيقة حدوث الشيء نفسه لا الإمكان لذلك . و باقر الصدر نفسه يسترسل في هذا النوع من الحجج لما لم يملك بديلا أقوى ، و هو يفعل ذلك على سبيل الإقناع فقط ، لا على سبيل أنه اقتنع بوجود مهدي الشيعة عبر هذه الأفكار التي طرحها في كتيبه . و قد قال معترفا أن فكرة المهدي جاءت في أكثر من 800 رواية بما يجعل ذلك مستحيل التكذيب . و باعتبار هذا العدد من الروايات صحيح . نسأل الصدر : « هل آمنت بالمهدي بإمكانية استطالة الشيخوخة و مراقبة الحضارات للحصول على حل للبشرية أم آمنت بمجموع 800 رواية » . و سيجيب أنه آمن من خلال مجموع الروايات . فلماذا لا تقنعنا بالطريق الذي أقنعك . . و لن يفعل لضعف الطريق ، فمعروف الضعف التاريخي في مذهب الشيعة ، حتى لا يكاد يستقيم لهم خبر بمنهجية التأريخ في أفضل كتبهم ، ككتاب الكليني الذي يعتبرونه كصحيح البخاري عند السنة . و المقصود : ضرب مثال عن مغالطة « الإمكان » من أجل تبرير حقيقة قضية ما ، بدل المناقشة في ذات القضية . مثل من يريد إثبات مبحث النبوة فيذهب يعلل عقليا إمكان حدوث النبوة ، و هذا طريق ضعيف لا يفي بمطلوبه ، بل الأصح و الأقوى هو الحديث في نبوة المعين بذاته كنبوة موسى أو عيسى أو محمد ، و متى ثبتت نبوته فالإمكان حينها ثابت معها ، مثلما فعل مفكرنا مالك بن نبي رحمه الله في رائعته « الظاهرة القرآنية » لما أثبت النبوة بطريقة تاريخية موضحا أن هناك ظاهرة تحدث و تتكرر في الماضي معنونة دوما على اختلاف الشخصيات القائلة بها بـــ« النبوة » . و نجد هذا النوع من التحايل حتى في بعض النظريات العلمية ، مثلما يفعل ريتشارد دوكينز أحيانا لما يسأل عن أصل الحياة فيجيب تارة باحتمالية الكائنات الفضائية و تارة باحتمالية الجزيء ذاتي الاستنساخ ، أو لورنس كراوس عن نشأة الكون فخلق لنا فرضية الفراغ الذي فيه الطاقة في كتابه « كون من لا شيء » ، أو ستيفن هوكينغ باحتمالية وجود أكوان لانهائية ، أو سيجموند فرويد في نظريته عن « الجنس و اللاشعور » لما وضع احتمالية الأب و الأبناء و القبيلة الأولى ، حتى فخر الدين الرازي في كتابه « أساس التقديس » لما أراد إثبات أن الله ليس بداخل العالم و لا خارجه ، راح يتحدث عن إمكان وجود موجود لا داخل العالم و لا خارجه و أنا نعقل مثل هذه الفكرة في أذهاننا ، و غاية ما قرره هنا هو « الإمكان » و هذا لا يأتي بالنتيجة التي يريدها ، و كفى في بيان ضعف الفكرة أنها لا تثبت إلا بطريق إمكان وقوعها ، فحقيقة هذا الاستدلال أنه يثبت كل شيء و لا يثبت شيئا .

بالنسبة للنقطة « جـ » : و هي عدم التفريق بين الذوقيات و العلميات ، و الذوقيات ما وافقت الطابع الشخصي بما يحبذه المرء و لا يحبذه ، أما العلميات فما وافقت الاستدلال و اللزوم العقلي ، و كثير من الكتب و الدراسات و الحوارات و الانتقادات تتم على أسس الذوقيات لا العلميات و لهذا يكثر الصخب حولها ، و هذا ملاحظ بوفرة عند الملاحدة في سؤالاتهم على الدين ، و نستغل مثالا منهم لتوضيح الفكرة :

يقول شريف جابر : « هناك سبب لوجود الكون لكن هذا السبب ليس الإله الذي يأمرك بدخول الحمام برجلك اليسرى » . هنا ينفي شريف جابر إمكانية أن يكون السبب الذي منه جاء الكون أن يكون هو الإله الذي يأمر الإنسان بدخول المرحاض برجله اليسرى . كأنه يقول : « هذا الكون باتساعه و عظمته و قوانينه و جماله يستحيل أن يصدر من إله يتتبع التفاصيل التافهة الصغيرة و يحاسب عليها » و المتأمل سيجد أن ذهن شريف جابر يملك في كلامه هذا مصطلحات مثل : « العظمة » ، « الجمال » ، « التفاهة » . . و هي ليست مصطلحات و انطباعات تعبر عن ممحاكمة علمية فلسفية ، بل هي مصطلحات تأتي من قاموس الذوق و الوجدان الداخلي ، تأتي من احساسات و مشاعر . فشريف جابر هذا في نفسيته أن الشيء الكبير جدا لا يهتم بالصغير التافه جدا . لكن لو خطونا خطوة إضافية و جاءنا شخص آخر يعتقد بالعكس و هو لا يهتم بكبر الشيء أو صغره بل بأثره ، فيتكلم من ذوقه الخاص و ووجدانه قائلا « إن من عظمة و رعاية و اهتمام هذا الإله الذي علمنا حتى كيف نمشي و أي رجل نضع ، عظمته و اهتمامه بهذه في التفاصيل تضح أكثر في كونه الفسيح البديع الذي يربط بين أصغر التفاصيل مع أكبر الأجرام و النجوم » . هنا نملك تصورين مختلفين ، كل منهما ناجم عن ذوق ، و لا يستطيع أحدهما أن يبرر للآخر فكرته لأنها منطلقة من ذوقه الخاص و انطباعه الشخصي ، و نكتة الجواب في المسألة : « أن كل ذوق ينقد فكرة ما يمكن أن يقابل بذوق آخر يؤيد هذه الفكرة » و لا مجال للترجيح بين الذوقيات ، تماما مثل شخصين ، الأول يقول لا أحب التفاح و الثاني يقول أعشق التفاح . و من هذا المنطلق يضح لنا كثير من المسائل ممن يأتي يعترض بتغيير القبلة و زوجات النبي و كون النبي عربيا و سبب تأييد الله لعباده بالملائكة . . الخ . و من فهم هذا الأصل ستنحل عنه شبه كثيرة فيستطيع تمييز الذوقيات من العلميات ، فيحذف الذوقيات من الاعتبار و يفحص العلميات و سيجد علميات هؤلاء الملاحدة هزيلة جدا لما تتعرى عن الذوقيات التي كانت تغطيها و تعطيها هيبة تافهة . و من أهم ذلك ما قد يستشكل على قصة آدم و حواء مقابل نظرية التطور ، فالناقد لقصة خلق آدم كما عند الأديان السماوية هو لا ينطلق من منطلق علمي لأن النظرية بحد ذاتها لم تكشف عن أصل الإنسان و لازالت تعاني من مشكل التطور الكبروي ، و التطور الصغروي تقره الأديان السماوية فلا حجة فيه ، لكن الناقد يأتي يستصغر قصة خلق الله لآدم و يعتبرها مثل الأسطورة و أنها لا تعجبه بحيث ليس فيها تفاعلات كيميائية و انتخاب طبيعي ، فاحتكامه هنا هو احتكام للذوق على طريقة الأنثروبولوجي آرثر كيت لما أفصح : « نحن نعلم ما تعاني نظرية التطور من ضعف لكنها البديل الوحيد عن نظرية الخلق » ، تماما أيضا مثل الذي يستنكر أن الله خلق الكون بقوله كن فيكون بدل أن يخلق الكون بمعادلة آينشتاين ، الطاقة تساوي مربع سرعة الضوء في الكتلة ، المسألة نفسانية ذوقانية بحتة و العبرة ليست بسؤال « كيف ؟ » تبعا للوسيلة فإن لم تعجبك الوسيلة رفضت الحقيقة ، بل الاعتبار أولا و آخرا بالحقيقة ذاتها أيا كانت طريقتها ، و هل إذا قاس أحد مقدار الضغط بالبارومتر ، و آخر قاس بطريقة حساب الظل ، نرفض طريقة الذي قاس بالبارومتر و نعتبرها خاطئة و نقبل بطريقة حساب الظل ، أبدا . المبتدأ و المنتهى هو في نتيجة القياس للضغط التي حصلنا عليها .

خلاف هذا توجد العلميات و هي كما قلنا تتبع الاستدلال و اللزوم العقلي ، و قياسا على ما سبق في موضوع الالحاد ، نجد استدلال كالآتي : أن معجزة عدم حرق ابراهيم في النار لم تحدث ، لأن القوانين العلمية الطبيعية ثابتة و مطردة في الكون حيث النار تحرق دوما . . فمثل هذه الحجة هي منسوجة على نسق لزوم و استدلال بغض النظر عن صحتها ، بلا أي ذوق أو وجدانيات فيها ، و هنا لا يتم مقابلتها بذوق بل يجب مناقشتها عقليا كونها مؤسسة بطريقة متسقة إلى حد ما ، فيقال لمثل هذا المستدل : أنه لا نزاع في القوانين الطبيعية لكنها ليست القوانين الفاعلة في الوجود فقط ، إذ هناك قوانين التاريخ التي بها يتم معاينة ما كان سابقا عنا ، فهنا نفي المعجزة بالاقتصار على القانون الطبيعي خطأ في الاستدلال ، بل لابد من النظر إلى القانون التاريخي : هل حدثت مثل هذه المعجزة و ثبت وجودها ؟ . . هكذا يتم مناقشة المسألة ، و كما ترى هنا تحول الحوار إلى استدلالات عقلية و إلزامات منطقية بدل الذوقيات و الوجدانيات . و هنا نكتة ثانية : « الذوقيات تتبع العلميات ، فمتى صحت أصول مذهب ما عقليا و فلسفيا ، صحت معه الذوقيات التي فيه »

في النهاية : لقد انجرفت قليلا ببعض الأمثلة التي لم أرد التوسع فيها ، لكن غرضي العتب على جميع الأطراف هنا و خاصة طرفي النقيض ، الأصوليين و الحداثيين ، فيجب معرفة فكرة الآخر معرفة عميقة قبل الحكم الساذج عليها ، كما يجب الحذر من بناء المسائل على طريق الإمكان الذي يثبت كل شيء و لا يثبت شيئا ، و الأهم تجنب النقد اعتمادا على الذوقيات باعتبارها أدلة ، و تناسي التحقيق العلمي الصارم بطريقة اللزوم العقلي الفلسفي . . و الله ولي التوفيق .

صيقع سيف الإسلام : الادب و الفن مع المجتمع

صيقع سيف الإسلام : الادب و الفن مع المجتمع : في « مشكلة الأفكار » يطرح المفكر مالك بن نبي استغرابا و سؤالا ضمنيا ، لما قارن مستوى النظافة بي...