في « مشكلة الأفكار » يطرح المفكر مالك بن نبي استغرابا و سؤالا ضمنيا ، لما قارن مستوى النظافة بين شوارع موسكو و شوارع بلد من العالم الثالث كالجزائر ، حيث شوارع موسكو نظيفة جدا خلافا لشوارع الجزائر ، برغم أن الجزائر دولة مسلمة و دين الإسلام حافل و غاص بالطهارة و نبذ النجاسة من أوله لآخره ، بدءا بتنقية العقائد إلى تنقية الأثواب و الأماكن ، فأين الخلل ؟ . يجيب بن نبي رحمه الله أن « أفكار النظافة » لدينا لم تتحول إلى « ثقـــــــافة » أي أن تكون قوة فاعلة من الوعي تسري في مسالكنا الدماغية الروحية كما يسري الهواء في مسالكنا الرئوية ، و جوابه مقنع و صادق آت من ملاحظة الانفصام الذي يعيشه مجتمعنا العربي و المسلم ، الانفصام بين الفكرة و الثقافة ، الانفصام بين الماضي و الحاضر . إلا أنه لا شك في وجود شيء تتغذى منه الثقافة السلبية – اتساخ الشوارع – مقابل شيء ثان تتغذى منه الثقافة الإيجابية – نظافة الشوارع-- . شيء هو يسير في الشوارع و البيوت و داخل الأزقة ، يعيش عند الطفل الصغير و المراهق الشاب و العجوز الكهل ، يعيش في المدارس و المكتبات و المستشفيات ، يعيش في الأرجاء و الأجواء كلها . . . و هو الأدب .
لا الأدب بمعناه الضيق المتمثل في الروايات و القصص ، بل بمعناه الواسع الشامل لكل من : الموسيقى ، الكوميديا ، المسرح و السينما ، القصة و الرواية ، الشعر . هذا الأدب بمعناه الواسع لا يكاد ينجو منه أمر ضمن مؤسسة الدولة ، أيا كانت ، فهو في المنزل و المدرسة و الشارع ، و هو الحوار بين هذا و ذاك ، و هذه و تلك ، وهو أسلوب بناء الجدار و الحائط و زخرفة المدن حتى ، فإذا وضح هذا لم يشك المتأمل أن للأدب بمعناه الواسع سطوة هائلة تضرب في العمق و الجذور داخل « الوعي الجمعي » لشعب من الشعوب ، و على حسب نضج و قوة و عمق الأدب يأتي نضج و قوة و عمق الإنسان ضمن الدولة ، و على سذاجة و سطحية و رقاعة الأدب تأتي سذاجة و سطحية و رقاعة الإنسان ضمن الدولة . حيث : كل بيئة معينة ذات خصائص ما ، هي في ذاتها عبارة عن « نموذج ذهني » يتم ترسيخه داخل عقل الفرد التابع لتلك البيئة ، إذ : ضمن بيئة شيعية مثلا ، الفرد هناك يملك نموذجا ذهنيا متعلقا بقبول كل ماهو ضد شخصية أبي بكر و عمر و العكس ، و في بيئة ليبرالية يملك الفرد هناك نموذجا ذهنيا متعلقا بتحررية لا تعرف قيودا ، و كل من الفردين عنده إسقاط لاواعي كما عنده ممارسة لاواعية لحياته ضمن النموذج الذي يملكه ، بمعرفته له أو بدون ذلك ، و أكثر الحالات بدون ذلك ، بل الغالب الأعم ، وليس قصدي هنا « الفكر » بل الأدبيات العامة المتوفرة و هي أخطر من الفكر و تبني « اللاشعور » الخاص بالإنسان ، و لنقارن بين شخصيتين تخيليتين قبل التخصص قليلا :
أ-شخصية تقرأ في أدب شكسبير و غوته و نجيب محفوظ و تستمع لموسيقى بيتهوفن و موزارت ، تنصت لأغاني أم كلثوم ، تقرأ في شعر بوشكين و إليوت و محمود درويش ، تشاهد الأفلام الفلسفية و الاجتماعية و النفسانية ، تتابع الأوبرا و المسارح العالمية لأمثال برنارد شو .
ب-شخصية تقرأ في أدب واسيني لاعرج و تستمع لموسيقى الروك أند رول ، تنصت لأغاني الراب ، تقرأ في شعر قيس و ليلى ، تشاهد أفلام الحب و القصص العاطفية الفاشلة ، لا تعرف شيئا اسمه المسرح .
نعم هو تخيل مفرط قليلا في الذاتية ، لكنه يصل بمقصودي الواضح ، أن نسق الشخصية « أ » في ذوقه و نضجه و طريقة تفكيره و أهدافه و غاياته و إسهاماته ، يختلف اختلاف النقيض مع نسق الشخصية « ب » الساقط في ذوقه و السطحي في أحاسيسه و انطباعاته و العقيم في تفكيره و الفاقد لمعنى الغاية و الطموح و إسهامه الوحيد الضرر بمجتمعه و بيئته ، فالشخصية « أ » هي لبنة الحضارة على عكس « ب » لبنة الانحطاط . ذلك أن الحضارة على مر تاريخها ، في أي جهة تمثلت ، صاحبها دوما أدب راق و فن عظيم ، خلافا للانحطاط الذي علامته هذا الأدب الرديء الذي يكسو مظاهر الحياة عند شعب من الشعوب ، بل من بوادر انطلاق و قيام الحضارة هو الأدب ، حيث يكون عاملا مهما في تغيير النمط السائد من الوعي عند فئة من الشعب ، تساهم هذه الفئة في تهيئة أرضية الثورة لاسترداد حق الحياة ، ذلك أنه لا حياة ضمن الحكومة الظالمة ، فالشيوعي لينين قيل فيه أنه تغير كلية في أفكاره بعد قراءة قصة قصيرة لأنطون تشيخوف ، كما أن رواية صغيرة مثل « مزرعة الحيوان » لجورج أورويل يقال كانت نقدا لاذعا للاتحاد السوفياتي ، بل حتى غاليلي نجده لما أراد الإفصاح عن أفكاره العلمية ، جعل كتابه يأتي في صيغة متحاوران يتناقشان ، أحدهما متبني للتصور الكنسي الأرسطي و الثاني لمنظور غاليلي نفسه ، كذا فعل جان جاك روسو في كتابه « إيميل » عن التربية الاجتماعية للطفل ، صاغه صياغة رواية و مذكرات .
و من سياقنا الإسلامي ، لا يفوتنا الأهمية الكبيرة للشعر ، الذي كان مأدبة لجميع الفنون ، اللاميات و النونيات و غيرها ، التي حوت أخبار التاريخ و عادات القبائل و قضايا المنطق و أحكام الفقه و فن الحديث و رياضة النفس بالتصوف و الترجيح بين العقائد ، مما لا يزال بعضه يتدارس إلى اليوم ، لكنه اليوم تدارس في حين البارحة كان ثقافة و نسيما يجوب الأجواء كما يجوبها الهواء و الريح .
أما اليوم فلا يفوت المرء الأهمية العظيمة للسينما الغربية و كيف صارت تعالج أمات المسائل و قضايا البشرية بفن سينمائي بلغ الذروة ، فمن جهة السرد الذي يعطي للفكرة نسيجا تحيا فيه ، هو واقع معاش يصل به المغزى أقوى و أسهل ، فقد عالجت السينما الغربية مفاهيم عديدة ، من ضمنها : الفقر ، المرض ، الأخلاق ، العدمية ، الديموقراطية ، الحب ، الخيال العلمي ، علم النفس الإجرامي ، اللاشعور ، الحداثة و الرأسمالية ، الشذوذ الجنسي ، الحرية ، الاستبداد ، العنصرية ، الانفصام . . . الخ . و تعدى الوضع إلى تمثيل قصص حقيقية كالحرب الأهلية التي دخلتها رواندا ، بل و تم تمثيل أعمال روائية خيالية ، و من العجب أنك تجد كتاب « النبي » لجبران خليل جبران مصاغا في فيلم من أجود ما يكون ، لتعرف كم صارت أهمية السينما و الفن السينمائي الذي لا نملك منه شيئا ضمن عالمنا العربي المسلم .
في مجتمعنا المتخلف نملك أسوأ الأدباء و أسوأ الشعراء و أسوأ المغنين و أسوأ الممثلين و أسوأ المخرجين السنمائيين و أسوأ الرسامين الكاريكاتوريين حتى . . كل هذا ملتما مع بعضه هو كتلة سامة تسري في الإنسان سري الدم فيه ، فهي تخلق « تصوراته » و تؤسس « مبادئه » و تحدد « غاياته و طموحاته » و كلها لصيقة التهمة بالفشل و الحمق ، لذلك ستكون شوارعنا متسخة خلافا لشوارع موسكو ، لا لأننا نجهل الأفكار العظيمة ، بل لأن هذا الأدب الذي نحيا فيه هو أدب السوء فيخلق لنا نموذجا ذهنيا نعيش به كالبهائم ، و نحن لا ندري أنه لكي نستفيق يجب أن نبدأ في تغيير هذا النمط من الأدب السائد ، و الرسالة موجهة لأصحاب الأدب لا الحكومة الفاسدة التي تكون أكبر مستفيد من هذا ، بل توفر دعما و حثا للأدب الفاسد حتى يبقى الفرد في معزل عن الوعي ، فيقال :
1-العبرة بأهمية و عمق القضية ، فرواية تعالج مشكلة اجتماعية و قصيدة ترفع من أحاسيس النزعة التحررية و سينما ترسم مستقبلا عن دراسة تاريخية واعية و كوميدي يسخر من المضرات و الآفات التي تهلك المجتمع و رسام يخلد موقفا من مواقف العز و الهوية . . . هي هذه القضايا ما يرفع الأدب من جهة و يرفع الوعي من جهة ثانية ، ضمن تلازم ، و لا يشترط في ذلك التكلف في المهارة ، فعمق « المــــــعنى » يشفع لضعف الصياغة ، أيا كان نوعها .
2-لما تتوفر بعض هذه الأسس الجديدة ، و يصبح الأدب راقيا ، هنا حتى مع توفر الحكومة الفاسدة ، سيتم بناء « تصور » صحيح و تأسيس « لمبادئ » راسخة و تحديد « لغايات سامية » ، بالتالي ينفر المواطن من حكومته و يبدأ الانسلاخ رويدا رويدا ، أين تقترب الحضارة رويدا رويدا .
نوع الأدب يخلق نوع المجتمع ، فاحرصوا على الأدب الراقي .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire